أزمة انتخاب محافظ جديد لـ كركوك وتداعياتها الإقليمية

التقرير يناقش الأزمة السياسية في كركوك بعد انتخاب محافظ جديد خارج التوافقات المعتادة، ويستعرض الأبعاد السياسية والإقليمية للأزمة وتأثير النفوذ الداخلي والخارجي على التوازن السياسي، كما يتناول أهمية كركوك الاقتصادية والاستراتيجية، خاصة مخزونها النفطي، ودورها في الصراع بين بغداد وأربيل، مع التركيز على التدخلات الإقليمية من إيران وتركيا لتأمين مصالحهما في المنطقة.

 

 

Image

أثارت الأزمة السياسية الأخيرة التي شهدتها محافظة كركوك، وتحديداً بعد انتخاب محافظ جديد لها، خارج سياق التوافقات السياسية، كما أعلنت بعض القوى السياسية الكركوكية الرافضة لعملية الانتخاب، العديد من ردود الأفعال السياسية والشعبية، فضلاً عن تداعيات إقليمية ذات صلة بها.

إذ تمثل كركوك أهمية كبيرة للعراق، سواءً على مستوى مخزونها النفطي، أو موقعها الإستراتيجي كنقطة تواصل بين إقليم كردستان العراق وبغداد ومحافظات جنوب العراق، أو وزنها التاريخي أو تنوعها الإجتماعي، وهو ما جعلها حاضرة وبقوة في العلاقة بين بغداد وأربيل في مناسبات عديدة، فمنذ توقيع اتفاق الحكم الذاتي في مارس 1974 بين نائب الرئيس العراقي آنذاك (صدام حسين) والملا (مصطفى البارزاني)، تم ترحيل ملف كركوك لمراحل لاحقة، حتى يتم حسم بعض الملفات الفنية المتعلقة بإجراء الإحصاء السكاني، ومن ثم الحديث عن مستقبلها ضمن الخارطة العراقية، وهو ما لم يتحقق، إذ بقيت المشكلة عالقة حتى الغزو الأمريكي للعراق في مارس 2003.

بعد الغزو الأمريكي للعراق،حظيت كركوك بمركزية مهمة في المعادلة السياسية العراقية، خصوصاً في المسائل التي تتعلق بهويتها أو مرجعيتها الإدارية أو موارد الطاقة فيها، وظلت محل خلاف دائم بين بغداد وأربيل، ومن أجل معالجتها تم إدراجها ضمن ما يعرف دستورياً بـ"المناطق المتنازع عليها"، والتي تناولتها المادة 140 من الدستور، إلاّ إن ربطها الاتفاقات والتوافقات السياسية التي تجري بعد كل انتخابات تشهدها البلاد، أضاف بعداً جديداً للأزمة، سواءً على مستوى تطبيع الواقع الإجتماعي أو الأمني، أو على مستوى وضع المحافظة ضمن الحالة السياسية العراقية.

مما لا شك فيه إن الأزمة الأخيرة التي شهدتها المحافظة، تعكس بما لا يقبل الشك، الفشل السياسي في معالجة الملفات المعقدة في هذه المحافظة، سواءً تلك التي برزت بعد الغزو الأمريكي للعراق، أو بعد نهاية الحرب على تنظيم "داعش"، إذ لم تعد أزمة كركوك اليوم مقتصرة على واقعها الإداري أو الهوياتي، بل أخذت المحافظة تجد نفسها حاضرة وبقوة في دوامة صراع النفوذ بين العديد من التنظيمات والفصائل المسلحة، أو التدافع الإقليمي بين تركيا وإيران في شمال العراق، أو التطورات الجارية على الحدود العراقية السورية، وهو ما يجعل الأزمة الأخيرة مرتبطة بأكثر من مسار داخلي وخارجي.

وفي سياق ما تقدم، فإن الخلاف السياسي حول انتخاب محافظ جديد لـ كركوك (ريبوار طه)، في ظل تأييد حزب الإتحاد الوطني الكردستاني وتحالف تقدم وفصائل مسلحة موالية لإيران، في مقابل رفض الحزب الديمقراطي الكردستاني وقوى عربية (تحالف السيادة والمشروع العربي) والجبهة التركمانية، جاءت على خلفية التعاطي السياسي المستمر مع واقع المحافظة، إذ كشفت الأزمة الأخيرة قصوراً سياسياً لا يتطابق مع مشاكل المحافظة والمتغيرات الجديدة، فالفصائل المسلحة الموالية لإيران، فرضت نفسها طرفاً جديداً في معادلة الحكم، ما يفرض بدوره مزيداً من التعقيد على المشهد الكركوكي الحالي.

إذ تسيطر الفصائل المسلحة الموالية لإيران اليوم على مفاصل مهمة ورئيسة في المحافظة، كما اضطلعت هذه الفصائل في مرحلة ما بعد انسحاب الحزب الديمقراطي الكردستاني من كركوك بعد عام 2017، بممارسة أدوار سياسية وإقتصادية وأمنية، وفرضت تأثيرها على الإدارة وتوزيع الوظائف والثروات والمشاريع والخدمات والبنى التحتية، كما إن عقلية المنتصر التي مثلتها هذه الفصائل في مرحلة ما بعد "داعش"، عرقلت الجهود المستمرة لتطبيع الأوضاع في المحافظة، وتحديداً خلال حكومة رئيس الوزراء السابق (مصطفى الكاظمي)، إلى جانب صناعة أكثرية مؤيدة لأدوارها وممارساتها، وهو ما خول هذه الفصائل القيام بأدوار  واسعة داخل المحافظة.

إن تحكم البعد السياسي في مسارات الأزمة بالمحافظة، لم يؤخر عمل مجلس المحافظة المنتخب حديثاً، بل فرض حالة من التعقيد السياسي على طريقة انتخاب المحافظ الجديد أيضاً، ما جعل من موضوعة التعاطي مع ملف كركوك لا ينتج سوى حلول آنية لا تستمر طويلاً، خصوصاً إذ وجدنا بأن فترة عمل المحافظ الجديد لن تتعدى سنة ونصف، على أن يتولى شخص من تحالف آخر المنصب، وبالتالي فإن هذا بدوره يفرض تحدي كبير لحالة الإستقرار السياسي في المحافظة، فيما لو انقلبت الأطراف التي شاركت في اتفاق تقاسم السلطة في كركوك على بعضها البعض، ما يؤشر بدوره إلى مدى صعوبة التعاطي مع الأزمة الحالية، خصوصاً في ظل رفض الحزب الديمقراطي الكردستاني والجبهة التركمانية التعامل مع الوضع الجديد.

 

الجانب الآخر من الأزمة

تمثل كركوك واحدة من أهم المحافظات العراقية المصدرة للنفط إلى جانب البصرة، إذ تنتج حقول كركوك النفطية ما يقرب من 400 ألف برميل يومياً يتم تصديرها عبر ميناء جيهان التركي، ومثل نفط كركوك ملفاً معقداً في العلاقة بين بغداد وأربيل، بل ويمكن اعتباره الملف الرئيس في محور الصراع الجاري للسيطرة على المحافظة، فرغم السيطرة "الرمزية" للحكومات العراقية على نفط كركوك بعد 2003، إلاّ إن ظروف الحرب على تنظيم "داعش"، وما رافقها من أعمال عسكرية، أدت إلى خروج أغلب حقول كركوك عن الخدمة، وهو ظرف استغلته أربيل جيداً عبر بناء محطات تصدير جديدة على هذه الحقول، دون موافقة الحكومة العراقية، إذ نجح الإقليم في توظيف عوائد النفط القادمة من هذه الحقول، بعد نجاحه في تصدير النفط المستخرج عبر تركيا، وهو واقع تغير بعد سيطرة بغداد على المحافظة في عام 2017، وخروجها من سيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني.

أدى الخلاف بين بغداد وأربيل على تشريع قانون النفط والغاز، إلى تجاوز مسألة الصراع على نفط كركوك البيئة الداخلية العراقية، لتلقي بظلالها على دول الجوار، وتحديداً تركيا التي لا زالت رافضة لاستئناف تصدير نفط كركوك عبر ميناء جيهان التركي، وذلك بعد كسب العراق لدعوى قضائية رفعها على الجانب التركي أمام محكمة باريس التجارية في مارس 2023، وذلك نتيجة قيام تركيا بتصدير النفط القادم من كركوك دون موافقة وزارة النفط العراقية في مرحلة ما قبل 2017، بناءً على تفاهمات أحادية مع سلطات إقليم كردستان، إذ فرضت محكمة باريس التجارية على الجانب التركي دفع تعويضات تقدر بـ1.4 مليار دولار للجانب العراقي، وهو ما ترفضه تركيا.

مما لا شك فيه إن الأزمة الأخيرة لا تعكس فقط فكرة الصراع السياسي بين بغداد وأربيل على كركوك، بل هو  صراع جيو-إقتصادي تحاول من خلاله أربيل تحقيق استقلال اقتصادي عن بغداد، يوفر لها هامش مناورة جيد في تعاملاتها الخارجية، عبر وضع يدها على مصادر الطاقة في كركوك، كمدخل مهم للتخلص من عمليات التضييق الاقتصادي التي تمارسه بعض الكتل السياسية "الشيعية" المتحكمة بعمل رئيس الوزراء، بعد كل أزمة تنشب بين بغداد وأربيل.

إن أحد الأسباب الرئيسة المتمثلة بتعثر إقرار قانون النفط والغاز، يتمثل برفض الإقليم الحديث عن أي تنازل يتعلق بحقول كركوك، إذ تدرك قوى الإطار التنسيقي وكذلك إيران، خطورة تحرير الإقليم في هذا الملف، ومنحه حرية التصرف بالموارد النفطية الموجودة بالإقليم دون إشراف مباشر من الحكومة الإتحادية، خصوصاً وإن الإقليم نجح خلال الفترة الماضية بتوقيع العديد من الاتفاقيات النفطية مع الجانب التركي، من أجل تصدير النفط والغاز من حقول الإقليم إلى تركيا، وما يمكن أن تؤدي إليه هذه الخطوة من تأثير اقتصادي كبير على إيران، التي تعد من الموردين الرئيسيين للغاز إلى تركيا.

إن الجديد بالخلاف الحالي يأتي بسبب عودة حزب الإتحاد الوطني الكردستاني لحكم كركوك من جديد، ما يفرض مزيداً من الضغوط على الحزب الديمقراطي الكردستاني، ففي الوقت الذي يطمح فيه الحزب الديمقراطي الكردستاني لاستغلال نفط كركوك في تحقيق مزيد من الإستقلالية عن بغداد، إلاّ إن عودة حزب الإتحاد الوطني الكردستاني، بدعم من الفصائل المسلحة الموالية لإيران، سيجعل وضع أربيل حرج للغاية ضمن معادلة التوازن السياسي مع بغداد، إذ تمتلك محافظة كركوك أول الحقول النفطية المكتشفة في البلاد، وهو حقل بابا كركر الذي اكتشف في أكتوبر عام 1927، ويعد ثاني أكبر حقل إنتاج نفطي في العالم، وخامس أكبر حقول العالم باحتياطه النفطي الذي يفوق 10 مليارات برميل من النفط الخام والنقي، كما تعد محطة تصدير النفط العراقي إلى ميناء جيهان التركي منذ عام 1934، فمعظم مشكلات العراق، مرتبطة بشكل وثيق، بملف الثروة النفطية، وهي حالة تجد نفسها في الصراع الدائر بين بغداد وأربيل على خلفية الأحداث الأخيرة.

 

معادلة النفوذ والتنافس الإقليمي

وجدت كركوك نفسها، وتحديداً بعد عام 2017، في دوامة صراع إقليمي للسيطرة عليها، إذ تعد كركوك نقطة إلتقاء لمشروع خط الغاز الإيراني المراد توصيله إلى سوريا، وخطها الواصل بين حقل "بارس الجنوبي" وتركيا، إلى جانب أهمية كركوك لإيصال النفط الإيراني إلى البحر الأبيض المتوسط، عبر تفعيل خط أنابيب كركوك – بانياس، ونظراً لمخاوف طهران من ملف الطاقة العراقي الذي إعتبرته جزءاً من أمنها القومي، أوكلت إلى مكتب العمليات الخارجية في الحرس الثوري - قوة القدس، مهمة الإشراف عليه، وعلى ملف المناطق المتنازع عليها بين حكومتي بغداد وأربيل، وفي مقدمتها سهل نينوى وكركوك وسنجار، مع إعلان حكومة إقليم كردستان نيتها لتصدير الغاز إلى الأسواق العالمية، بدأ المكتب المذكور تنفيذ خطة لعزل كركوك عن الإقليم، تهدف لدعم المعارضة السياسية لأربيل، وتوسيع مسارات التضييق على الإقليم.

إن الدور الإستراتيجي الذي تمارسه إيران في شمال العراق، دفع بها إلى إيلاء محافظة كركوك قيمة أمنية كبيرة، والتدخل في صياغة خطط إنتشار الفصائل المسلحة الموالية لها هناك، وتنسيقها مع الأدوار التي يلعبها حزب العمال الكردستاني، وتحديداً في مخمور والتون كوبري طوزخورماتو وآمرلي، من أجل وضع اليد على الحزام الجغرافي الذي يربط محافظة كركوك بمناطق الموصل وسنجار والحدود السورية، من أجل التحرك بحرية أكبر بمواجهة التزاحم التركي، مما عزز من القيمة الإستراتيجية لكركوك في المنظور الأمني الايراني، إذ تكفي الإشارة إلى أن قائد قوة القدس السابق (قاسم سليماني)، لعب دوراً مهماً في إستعادة كركوك عام 2017، عندما قاد الفصائل المسلحة عبر محور كركوك الجنوبي، سبق ذلك عدة رسائل تحذيرية أرسلها سليماني لرئيس إقليم كردستان آنذاك (مسعود بارزاني) بضرورة التراجع عن خطوة الاستفتاء.

إذ تمكنت إيران وعبر علاقاتها الوثيقة مع حزب العمال الكردستاني، التحول نحو إستراتيجية أكثر تخصصية في شمال العراق، ولم يقتصر دورها الإشراف على كركوك والفصائل المتواجدة فيها فحسب، وإنما يتمثل دورها أيضاً في تأمين الطريق البري الرابط بينها وبين مخمور والقيارة وتلعفر وسنجار بإتجاه الحدود السورية، حيث تنتشر قوات حزب العمال الكردستاني والفصائل المسلحة الموالية لإيران، وذلك لتأمين عمليات نقل المقاتلين والأسلحة إلى سوريا، فضلاً عن تأمين عمليات تجارة المخدرات والتهريب والتجارة العابرة للحدود، عبر مناطق سنجار والإدارة الذاتية الكردية شمال شرق سوريا، نحو تركيا وأوروبا، وشكلت هذه العمليات مدخلاً لحصول إيران على ملايين الدولارات، في الوقت الذي تخضع فيه لعقوبات أمريكية مشددة، كما إنها أفرغت الإجراءات العسكرية التركية من فعاليتها، وهي معضلة يتوقع أن تستمر تركيا بمواجهتها في المرحلة المقبلة، خصوصاً مع عودة حزب الإتحاد الوطني الكردستاني لحكم كركوك، بحكم علاقاته الجيدة مع حزب العمال الكردستاني، الذي سيستغل بدوره هذه العودة لتأمين نفسه عسكرياً وإقتصادياً.

أما على صعيد الدور التركي، فلم تكن التطورات الأخيرة التي شهدتها كركوك بعيدة عنها، إذ حذر الناطق بأسم حزب العدالة والتنمية (عمر جيليك) من أن لا تؤدي عملية انتخاب محافظ جديد لـ كركوك خارج مظلة التوافق السياسي إلى أية ممارسات من شأنها تغيير التركيبة الديموغرافية لمدينة كركوك، من أجل الحفاظ على السلام في المنطقة، ويمكن القول بأن كركوك تحظى بمركزية مهمة في الإستراتيجية التركية شمال العراق؛ إذ يمثل شمال العراق الحزام الجنوبي الأهم في إستراتيجية الأمن القومي التركي، وتؤثر التفاعلات فيه بشكل مباشر على الداخل التركي، وتحاول تركيا جعل هذه الحزام، وتحديداً نينوى وكركوك، بعيداً عن أي توترات أمنية أو صراعات سياسية، ولعل هذا ما يبرر انتشارها العسكري الواسع في شمال العراق، إذ يحكم التوجه التركي حيال العراق بالمرحلة الحالية متغيرات أساسية عدة منها، تطويق مشكلة حزب العمال الكردستاني والحد من تهديداتها الأمنية، والحفاظ على مكانة أربيل في السياسة العراقية، واحتواء الخلاف الحالي في كركوك، والأهم توفير بيئة ملائمة لإنجاح "مشروع طريق التنمية" مع العراق.

إن مستوى الإهتمام التركي بكركوك يتوقع أن يشهد تصاعداً في الفترة المقبلة، حيث إن نظرة بسيطة لطبيعة الدور التركي في العراق خلال العقدين الماضيين، تشير إلى ثبات الموقف التركي عند التعاطي مع الأحداث المستجدة في كركوك، ويمكن أن نشهد تعاظم إهتمام أنقرة بالمكوّن التركماني بالمحافظة الذي تحرص تركيا على بقائه قوياً ومتماسكاً، في ظل عودة قوى مناوئة لها لإدارة المحافظة، إذ تؤشر عملية الدخول التركي المبكر على خط الأزمة الراهنة في كركوك، حرص تركيا على عدم بروز أي متغيرات من شأنها أن تهدد الوضع السياسي للتركمان في المحافظة، حتى وإن أدى ذلك إلى التلويح بالقوة العسكرية.

إجمالاً يمكن القول بأنه لا زالت التركيبة السياسية التي تتحكم بمفاصل الإدارة المحلية في كركوك تشهد غياباً واضحاً لوجود الحزب الديمقراطي الكردستاني والجبهة التركمانية وقوى عربية، في مقابل استئثار واضح من قبل حزب الإتحاد الوطني الكردستاني المدعوم من قبل فصائل مسلحة بإدارة شؤون المحافظة، وإن استمرار هذا الوضع من شأنه أن يأزم من حالة الاستقرار السياسي في كركوك في المرحلة المقبلة، دون أن تكون هناك حلول سياسية تنهي حالة الإقصاء السياسي.

lang.evaluate content

التعليقات السابقة