كان ظهور تنظيم داعش أكثر من عملية تطورية طويلة الأمد، حيث كانت متداخلة مع المظالم والتمزقات السنية داخل المجتمع التي وفرت فرصاً لاستغلالها من قبل التنظيم. لم يكن صعود داعش يقتصر حول السلوك الطائفي للحكومة تجاه السكان السنة فحسب، بل كان نتيجة لديناميكية محلية أكثر في تسوية الحسابات بين السنة
منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 والإطاحة بصدام حسين، حُصرت "الطائفة السنية" في دائرة من الاضطرابات والعنف. حيث احتكر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) مؤخراً تمردًا سنيًا ظهر في 2013-2014 لمقاومة الحكومة المركزية القمعية والاستبدادية في بغداد بقيادة نخب شيعية من حزب الدعوة الحاكم برئاسة نوري المالكي. وخلال فترة قصيرة، توسع تنظيم داعش بسرعة في صيف 2014 من خلال المناطق السنية في وسط وشمال العراق ووسط وجنوب شرق سوريا. وفي ذروته، أزاح تنظيم داعش الحدود الحديثة المرسومة بعد سقوط الدولة العثمانية، وأدار واستخرج موارد من أراضي شاسعة، ليحكم حياة ما يصل إلى 12 مليون شخص.
كان ظهور تنظيم داعش أكثر من عملية تطورية طويلة الأمد، حيث كانت متداخلة مع المظالم والتمزقات السنية داخل المجتمع التي وفرت فرصاً لاستغلالها من قبل التنظيم. لم يكن صعود داعش يقتصر حول السلوك الطائفي للحكومة تجاه السكان السنة فحسب، بل كان نتيجة لديناميكية محلية أكثر في تسوية الحسابات بين السنة داخل العشائر وعبر الانقسام بين الريف والمدن. ومع مرور أكثر من عام على انتهاء عمليات التحرير، تركت الحرب وراءها إرثًا ثقيلاً ومظالم جديدة من المرجح أن تتسبب في اشتعال النيران القادمة. واليوم، يلوح الانقسام والدمار واليأس في المجتمع السني كما لم يحدث من قبل.
يركز هذا البحث على الوضع الحالي للاضطراب في المجتمع السني. وهو يبحث في أسئلة مهمة تتعلق بالهوية والتنظيم والمشاركة السنية في مواجهة الدولة العراقية. إن التغيرات السنية داخل العراق أثبتت من قبل أن لها تأثير كبير على استقرار البلاد وحتى على الأمن الإقليمي والدولي. لذلك، فمن المهم أن يبقى صناع السياسة الغربيون مشاركين ومطلعين على القضايا التي تواجه المشهد السني بعد داعش.
حتى عندما يبدو أن التنظيم قد هُزم، فمن المرجح أن تمكن الظروف داخل المجتمع إمكانات ومعايير التمرد المستقبلي في العراق.
حرب استثنائية: كانت الحرب ضد داعش التي تهدف لتحرير المناطق التي يسيطر عليها التنظيم (مناطق سنية بشكل رئيسي) تشنها القوات المسلحة غير السنية. وقد كان لها عواقب على نظام ما بعد الحرب حيث قوضت بشكل أكبر عملية دمج النخبة السياسية السنية، مما أجبر السنة على السعي إلى الشرعية من خلال التوافق مع النخب السياسية في بغداد وأربيل والعمل كوكيل سياسي محلي. لقد كان السنّة محرومين منذ زمن طويل، حيث ترك الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003 وما تلاه من عملية اجتثاث البعث للمجتمع الذي قادته سلطة الاحتلال تجاه السنة العراقيين، وتُرك السنة دون أي منظمة أو حركة سياسية رسمية موحدة لدعمها. اختلف هذا الأمر مع نظرائهم في المكونين الشيعي والكردي، حيث كان لديهم عناصر تنظيمية بديلة وطويلة الأمد قبل الاحتلال الأمريكي من خلال المؤسسات الدينية والأحزاب السياسية. وبما أن التمردات ضد نظام البعث كانت مدفوعة من قبل الجماعات الكردية والإسلامية الشيعية، فقد تم توريث كلا المكونين مع رجال أعمال مسلحين سابقين جاءوا لتعزيز السلطة السياسية (بعد سقوط نظام صدام ) والتي نمت بعد الغزو.
مع بدء الحملة العسكرية المدعومة من الولايات المتحدة ضد تنظيم داعش عام 2014، قدم الزعماء السنة طلبات عديدة للدبلوماسيين الأمريكيين والمسؤولين العسكريين للمساعدة في تدريب وتجهيز أفراد العشائر لتحرير أراضيهم. كان من المهم بالنسبة لشيوخ العشائر السنة ألا يتم استبعادهم من ضمان الأمن المحلي والإشراف على الحكم لأن المشاركة في العمليات تعني أيضًا الوصول إلى سلطة ما بعد الحرب والتأثير على المناطق المحلية. ولكن بدلاً من إقامة شراكة مباشرة مع العشائر السنية كما كانت أثناء الاحتلال قبل عام 2011، أبلغت الولايات المتحدة القادة السنة الذين أرادوا المشاركة في التحرير أنه سيكون عليهم الحصول على رعاية من الحكومة المركزية في بغداد أو حكومة إقليم كردستان في أربيل.
في حين أن الولايات المتحدة لم تتمكن من العمل خارج المؤسسات الأمنية الرسمية، بينما أشارت النخب داخل المجتمع السني إلى عدم الاتساق عن طريق السماح للقوات شبه العسكرية الشيعية والكردية التي تقرها الدولة ومنع العشائر السنية من امتلاك الأسلحة للدفاع عن نفسها. وبالتالي، فإن
نقاط الوصول في الوحدات المسلحة السنية التي قاتلت لتحرير المناطق ذات الغالبية السنية كانت تحت سيطرة القادة السياسيين الشيعة والأكراد.
وقد اختلف هذا عن تجارب مكافحة التمرد السابقة (2006-2008)، عندما ساعد الجيش الأمريكي بشكل مباشر قوات العشائر السنية المعروفة باسم "الصحوة" أثناء محاربة تنظيم القاعدة. وفي عام 2014، حاول دبلوماسيون أمريكيون إعادة تشكيل تكرارات جديدة تجاه العشائر السنية المسلحة، لكن هذه المبادرة فشلت في إقناع الشيوخ بمحاربة داعش دون الحصول أولاً على ضمانات سياسية من الحكومة العراقية. لأن الولايات المتحدة فشلت في الوفاء بوعود اندماج الميليشيات لقوات الصحوة في القطاعين الأمني والمدني للحكومة بعد عام 2008، وتركتها عرضة للتهميش والإقصاء من قبل حكومة المالكي. وقد أضر ذلك بشكل كبير بمصداقية الولايات المتحدة كوسيط في نظر شيوخ العشائر السنية، مما أدى إلى إغلاق نافذة الفرص في المراحل المبكرة من الحرب على تنظيم داعش في إعادة إنشاء شيء شبيه بالصحوة. ولكن منذ عودة الجيش الأمريكي إلى العراق في عام 2014 على أساس تبادل دبلوماسي للخطابات، كانت قدرته ودوره محدودًا بشكل كبير مقارنة بتجربته السابقة في 2006-2008. حيث اصبح الوضع الجديد أكثر اعتمادًا على قرارات وسياسات الحكومة المحلية عند اتخاذ أي مبادرة فيما يتعلق بالجهود الحربية. ونتيجة لذلك، فشلت مبادرة الحرس الوطني المدعومة من الولايات المتحدة، والتي من شأنها تمكين النخب السنة وتسليح العشائر السنية بسبب المقاومة السياسية من قبل الأحزاب الشيعية الحاكمة. لم تستطع الولايات المتحدة تكرار الشروط اللازمة لتسهيل تحالف واسع النطاق ضد داعش بين العشائر السنية كما فعلت في الماضي ضد القاعدة في العراق. لم يكن الافتقار إلى مصداقية الولايات المتحدة بين القادة السنّة ودور الجيش الأمريكي المحدود في المجهود الحربي هو القيود الوحيدة التي تعمل ضد الظروف المواتية. حيث لم تصطف تصورات التهديد على الأرض ضد داعش كما كانت سابقاً ضد تنظيم القاعدة في العراق. حيث وصف أحد شيوخ العشائر في الأنبار بأن "المجتمع السني أمامه خياران "مقاتلة تنظيم داعش والسماح لإيران وميليشياتها بأن تحكمنا أو تفعل العكس". ويذكر شيخ العشيرة "لقد اخترنا داعش لسبب واحد فقط وهو ان تنظيم داعش يغتالك، بينما الحكومة العراقية تغتالك وتغتصب نسائك".
بالإضافة، أن صناع السياسة الأمريكيين أعطوا الأولوية لهزيمة داعش حيث كانت واشنطن أقل رغبة في ربط دعمها العسكري بشرط أن تتبنى بغداد شكلاً شاملاً في إدراج العشائر السنية في عمليات التحرير. لكن بدلاً من ذلك، تم نشر القوات المسلحة الشيعية والكردية (والتي تضمنت عشرات الميليشيات) بشكل رئيسي في المناطق التي يسيطر عليها السُنة والمناطق المختلطة. إلى حد وجود السنة المحليين الذين شاركوا في جهود التحرير الذين عكسوا تمثيل الولاءات السياسية للأحزاب والشخصيات الحاكمة في بغداد وأربيل، وليس تمثيلًا حقيقيًا لعناصر العشائر السنية في المجتمع المحلي داخل سيطرة تنظيم داعش. وقد عزز هذا الهيكل ثنائي القطب المنافسة والتوترات داخل السنة، بما في ذلك داخل نفس العشيرة (مثلما اصطدم البعض مع أربيل لتحقيق التوازن ضد المنافسين الذين اصطفوا مع بغداد). وفي الواقع، كان البعد الإقصائي في الحرب يعني تعزيز الانقسام الهوياتي في المجتمع العراقي. حيث سيصبح معنى الانتصار ذكرى خاصة بمكون، وليس ذكرى بين الشعب العراقي، حيث حرمت الطائفة السنية بشكل عام من المشاركة في تجربة حرب منتصرة.
جذور عدم الاستقرار: قبل عام 2014، اعتقد صانعو السياسة الأمريكيون أن دولة العراق الإسلامية هُزمت تنظيمياً. وكان هذا السياق في فترة بعد أبريل / نيسان 2010، عندما قامت القوات الأمريكية والعراقية بإقصاء كبار قادة التنظيم في عملية مشتركة واحدة. وفي السنوات اللاحقة، كان كبار المسؤولين الأمريكيين غالبًا ما يؤكدون أن مستوى العنف كان منخفضًا في العراق وأن السياسة أصبحت متحدة كآلية رئيسية لحل النزاعات. ونتيجة لذلك، وبحلول الوقت الذي غادر فيه الجيش الأمريكي البلاد في ديسمبر 2011، اعتقد المسؤولون الأمريكيون أن العراق قد تحول إلى زاوية يكون فيها الصراع الأهلي غير مرجح مثل أي وقت مضى. كان الرأي السائد هو أن تنظيم داعش كان بمثابة احتلال على المجتمع. في الواقع، برز تنظيم داعش من خلال اندماج سريع بين تمرد متعدد الجهات في العراق خلال صيف 2014. وهذا سمح للتنظيم بتعبئة الموارد المكتشفة حديثًا، مع استيعاب موجة أكبر من المقاتلين الأجانب ليوسع سيطرته الإقليمية في سوريا. ومع ذلك، وعلى الرغم من بدايته المفاجئة، لم يكن تنظيم داعش نتيجة لسبب أو حدث واحد كما تم تصويره في كثير من الأحيان. لقد كان نتاجًا للعديد من الديناميكيات المتفاعلة التي حدثت على مدى أفق طويل، بما في ذلك تلك التي حفزتها انهيار مؤسسات الدولة، واحتلال أجنبي يحشد المقاومة المسلحة، وحرب أهلية مزقت النسيج الاجتماعي والهويات في المجتمع. غالبًا ما يتم تفسير صعود تنظيم داعش من خلال عدسة
العقيدة الدينية والتطرف الديني. لكن في الواقع، دفعت الكثير من العوامل والمبررات العراقيين من مختلف قطاعات المجتمع للانضمام إلى التنظيم. على مستوى دوائر صنع السياسات، كان داعش نتيجة التهميش الطائفي من قبل الحكومة. ومع ذلك، يعد فشل المصالحة على طول الانقسام الطائفي الشيعي - السني يعتبر عامل مهم في صعود داعش بالإضافة إلى الانقسامات والتوترات داخل المجتمع السني. لقد لعبت سياسات الإقصاء والتهميش دورًا على المستوى الوطني، وخاصة بين النخب، لكنها فشلت في تفسير الآليات على المستوى المحلي، خاصةً في تفسير الانقسامات داخل السنة والتي أدت إلى التوسع السريع لتنظيم داعش.
وساعدت الاضطرابات والفوضى التي أفرزها الغزو الأمريكي للعراق على تشكيل وترسيخ الهوية الجمعية لـ "المجتمع السني" ، لكنها أحدثت أيضًا تمزقات واحتكاكات داخل المجتمع. مثل تنظيم داعش الذي يمثل شكل من أشكال التمكين داخل المناطق السنية ليس فقط ضد الحكومة وأجهزتها القمعية، ولكن أيضًا كآلية لمعالجة المظالم المحلية لتنفيذ الانتقام وتسوية حسابات طويلة الأمد تراكمت داخل المكون السني. ان اجتياح تنظيم داعش في صيف 2014 ادى الى تفكك في نظام العشائر السنية، حيث شهدت العديد من العشائر والمجتمعات المحلية (حتى على مستوى القرية) انقسامات بين تلك التي سهلت ودعمت داعش وتلك التي قاومت أو هربت. وقد أدى هذا المشهد المجزأ إلى تعقيد عملية نشر الشركاء المحليين في عملية التحرير.
مشهد ما بعد الحرب: من المقابر الجماعية إلى عملية محو رموز الهوية والثقافة، يعد تنظيم داعش مصدر الصدمة الجماعية الجديدة للعراق التي تستمر اليوم على مستوى الطوائف الدينية والعرقية في البلاد. ومع ذلك، نظرًا لأن تنظيم داعش كان مستمدًا بشكل أساسي من قطاعات مختلفة من السكان السنة في البلاد، فإن احتلاله للمناطق السنية أدى إلى ترسيخ شبكاته مع التضاريس الاجتماعية. إن صعود وسقوط تنظيم داعش لم يترك وراءه دمارًا في البنية التحتية والممتلكات فحسب، بل تسبب أيضًا في تمزق داخل النسيج الاجتماعي في المجتمع. واليوم، يواجه السنة "أزمة وجودية" على مستوى الطائفة والذي يعني التشرذم التراكمي لمجتمعهم ومستقبلهم داخل بلد متأثر بثقل الأحزاب والميليشيات الشيعية. حيث أدت هجمة داعش وحرب التحرير إلى النزوح الجماعي لملايين العراقيين، وكان الغالبية العظمى من السنة. وخلال ذروة الحرب، نزح 5.8 مليون عراقي على الأقل. لكن مع
تضاؤل القتال واستقرار المدن، عاد غالبية السكان النازحين إلى ديارهم. لكن ما زال أكثر من مليون نسمة في مخيمات النازحين وعمليات الإسكان غير الرسمية. كانت عملية إعادة الإدماج بعد الحرب في العراق غير مؤكدة وبطيئة، حيث اختلفت عوائق عودة النازحين من مكان إلى آخر. وكما يؤكد أحد زعماء العشائر السنية المحلية في محافظة ديالى بأن "عملية عودة النازحين الى بيوتهم أصبحت ممارسة عشوائية". ومن خلال إظهار الأبعاد المادية والسياسية على حدٍ سواء، من المرجح أن تثير هذه الحواجز المظالم داخل المجتمع السني وتعمل كمحركات أساسية لعدم الاستقرار في المستقبل.
سيطرة الميليشيات: أدى ضعف الدولة ووجود نفوذ الميليشيات وتأثيرها عبر المشهد في فترة ما بعد الحرب إلى عوائق سياسية أعاقت عملية إعادة الاندماج. كان تأثير الميليشيات نشطًا بشكل خاص في الأماكن التي تختلط فيها التركيبة السكانية والتي تنحاز فيها الميليشيات على حساب التوازن العرقي والديني لصالحهم. فعلى سبيل المثال، استولت الجماعات الشيعية والكردية المسلحة على العديد من المناطق المختلطة أثناء عمليات التحرير واقاموا منذ ذلك الحين عقبات إضافية تمثلت في منع السنة النازحين من العودة إلى منازلهم ومجتمعاتهم. واليوم، تخضع هذه المناطق لحملة من التغيير الديموغرافي تحت سيطرة الميليشيات، ويخشى العديد من السنة من أن منعهم للعودة سيصبح سمة دائمة في حياتهم. وهذا أمر يتعلق بعملية الاستقرار في المستقبل، حيث أن التلاعب الديموغرافي القسري هو أحد العوامل المساهمة في قيادة التمرد في "المناطق المتنازع عليها" بين أكراد العراق والعرب والتركمان. حيث بدأت هذه العملية في فترة الستينيات وتم تكثيفها في منتصف السبعينيات، حين واصل نظام البعث حملة "التعريب" لتأمين السيطرة العربية على شمال العراق، مما أدى إلى تشريد الأقليات العرقية قسراً وبالأخص مئات الآلاف من الأكراد. وفي عام 2003، وبعد الإطاحة بنظام البعث، انطلقت عملية توسعية كردية مضادة لاستعادة الأراضي المفقودة، مما أدى إلى زيادة التوترات العرقية مع العرب السنة والتركمان. وبينما اجتاح تنظيم داعش شمال العراق عام 2014، انضم العرب والتركمان في المناطق المتنازع عليها (والتي تأثرت بالتلاعب الديموغرافي) الى تنظيم داعش كعملية للانتقام وتصفية الحسابات ضد السلطة الكردية. كما ان عامل الخوف يقوض عملية إعادة الإندماج. ففي مدينة الفلوجة، احتجزت الميليشيات الشيعية (التي تعمل جنبًا إلى جنب مع قوات الشرطة الاتحادية) أكثر من ألف رجل، وأطلقت سراح المئات لأسباب صحية حيث أظهر الكثير منهم علامات التعذيب الجسدية بما في ذلك الاغتصاب والجروح والحروق. العديد من العائلات السنية (سواءً
مشردة أو عائدة إلى مجتمعاتها) لديها أقارب مفقودين احتجزتهم قوات الأمن الحكومية أو المليشيات. ونتيجة لذلك، شكل المجتمع السني مجالس محلية للاتصال بالمسؤولين الحكوميين والبحث عن معلومات من أجل استرداد أفراد أسرهم المفقودين. لكن هذه الجهود أتت بدون نتيجة، حيث من الواضح انه لا توجد سلطة عراقية لمحاسبة المسؤولين. وعلى هذا النحو، وعلى الرغم من مرور السنين، لم تكن هناك إجراءات جنائية بالنسبة للمفقودين، حتى ان الكثير منهم لا يعرفون مكان احتجاز أفراد أسرهم أو حتى ما إذا كانوا لا يزالون على قيد الحياة.
وبالإضافة إلى دورها في وضع العوائق أمام عملية إعادة الإندماج، حولت الميليشيات الشيعية سيطرتها الإقليمية على المناطق المحررة إلى نفوذ سياسي ومكاسب اقتصادية. فعلى سبيل المثال، في العديد من البلدات والمدن، تم استبدال رؤساء البلديات والمحافظين الذين تم عزلهم من السلطة أثناء النزاعات السياسية بتلك التي لها علاقات جيدة مع الميليشيات المسلحة المقربة. كما استغلت الميليشيات مناطق ما بعد داعش كمشاريع اقتصادية من خلال مجموعة متنوعة من الأنشطة غير المشروعة منها تهريب النفط والنهب والاختطاف والفدية والابتزاز والضرائب على السكان السنة المحليين، خاصة من خلال نقاط التفتيش على نقل البضائع التجارية. بالإضافة إلى ذلك، استخدموا نفوذهم السياسي والقوة العسكرية لكسب نفوذ كبير على الأسواق الاقتصادية. ومن الأمثلة على ذلك دور الميليشيات في حصر سوق الخردة المعدنية (السكراب) في الموصل، والذي يمثل ملايين الدولارات من مبيعات الحطام الذي جلبته الحرب. اما بالنسبة لبعض الجماعات وبالتحديد ميليشيات العشائر السنية التي تعمل كوكلاء محليين للميليشيات في حكم تلك المناطق فقد انشأوا نظام الضرائب الخاص بهم والذي يمثل مصدر دخلهم الوحيد. هذه العمليات أدت إلى الشعور بعدم التمكين والمظالم بين السنة في مناطق ما بعد الحرب تجاه الميليشيات الشيعية، بالاضافة الى استياء داخل المجتمع تجاه بعض السنة الذين يصطفون معهم.
العوائق امام عملية اعادة الإدماج: إن التحدي الأكثر حساسية وتعقيداً في عملية اعادة الإدماج الفعال يتعلق بعوائل تنظيم داعش. وتعد مشكلة لازالت قائمة بسبب ضعف الحكومة وعدم امتلاكها إلى خطة مركزية أو معايير ومبادئ توجيهية مشتركة للتعامل مع المهمة الأكثر صعوبة لإدارة الاستقرار في تلك المناطق في فترة ما بعد الحرب. بالإضافة إلى ذلك، قد يكون لهذا آثار أمنية خطيرة على مستقبل الدولة. وكما علّق أحد المراقبين الغربيين بعد زيارته للعراق قائلاً بأن، حتى يتم إطلاق سراح أولئك
الموجودين في المخيمات أو معالجتهم في نظام العدالة الجنائية في البلاد، فإنهم يشكلون تهديدًا متزايدًا للأمن والحكم والعدالة في جميع أنحاء العراق، وخاصة في المناطق التي لا يزال تنظيم داعش يحظى بدعمها وبعملية إثارة الخوف. فكلما طالت فترة بقاء هؤلاء افراد التنظيم وعوائلهم في طي النسيان القانوني والمادي، زادت فرصة إحياء داعش في نهاية المطاف. ومن ناحية اخرى ، فإن خوف الحكومة يتثمل بأن السماح لعوائل التنظيم بالعودة قد يزيد من تهديدات تنظيم داعش ويشكل خطراً في عملية إعادة الاندماج متمثلاً بإثارة العنف المحلي. وبالتالي ، فإن إعادة إدماج عائلات داعش ليس مصدر قلق على المستوى الوطني فحسب، بل هو أيضًا قلق محلي بين قادة المجتمع خصوصاً بين أولئك الذين وقعوا ضحية من قبل تنظيم داعش وأولئك الذين هم أفراد عائلة التنظيم. والى الآن، فإن أفراد الأسرة من الدرجة الأولى (مثل الإخوة والآباء والأبناء) هم التهديد الأمني الأساسي بالنسبة للحكومة وأجهزتها الأمنية. لكن الحكومة المركزية وحدها لا تستطيع معالجة هذا الوضع كونها تفتقر إلى احتكار استخدام القوة، فإن الجهات الفاعلة الأخرى مخولة في عملية تحديد مصير عوائل تنظيم داعش.
ونتيجة لذلك، هناك اختلاف كبير من مكان إلى آخر بالنظر إلى السياق والظروف المحلية. بالإضافة إلى دور زعماء العشائر والمجتمعات المحلية في تحديد معايير وشروط إعادة الإدماج. منها ضرورة أن تحصل تلك العوائل على تصريح أمني صادر من الحكومة للعودة إلى مناطق إقامتهم، وهذا يشمل عملية تستغرق شهورًا تشمل زيارة المحكمة لإصدار بيان يتنصل فيه الشخص من أي أقارب متهمين بالانضمام إلى داعش. ايضاً، يجب أن يكون لدى عوائل التنظيم كفلاء حاضرون في المحكمة لدعم بيان الإنكار والعمل كضمان للامتثال. وعادة ما يُطلب من كفلاء متعددين ومحددين الحضور الى المحكمة مثل أفراد الأسرة من الدرجة الثانية وزعماء العشائر والمختار (أو الممثل الإداري المحلي على مستوى القرية أو الحي) ولكن هناك اختلافات في هذه الإجراءات من مكان إلى آخر نظرًا للظروف المحلية. ففي بعض المناطق مثل قضاء الحويجة في محافظة كركوك، يلزم كفيل واحد فقط بدلاً من ثلاثة لأن هناك مخاوف من أنه إذا كانت الحواجز عالية جدًا فستزيل المنطقة من سكانها نظرًا لوجود عدد كبير جدًا من سكان عوائل التنظيم من الدرجة. وفي مناطق أخرى مثل منطقة ربيعة في محافظة نينوى، فقد ذهبت عشيرة شمر إلى حد رفض عودة أي أفراد من الدرجة الثانية من أفراد متهمين من داعش.
حتى اليوم ، لا تزال الحكومة العراقية تفتقر إلى سياسة أو آلية موحدة لحل قضية أفراد عوائل التنظيم. فقد عمدت السلطات العراقية الى إنشاء معسكر اعتقال لنقل وإيواء جميع أسر أعضاء داعش المشتبه بهم، الأمر الذي سيقود الى عزل ووصم الأجيال القادمة من هذا المجتمع. بينما لا تملك الحكومة طريقة واضحة لتحديد عدد أفراد عوائل التنظيم، فإن معظم التقديرات تشير الى ان اعدادهم بمئات الآلاف. فقد أدى النقص المنهجي للبيانات إلى وصم من قبل الحكومة والمجتمع ضد مجتمع النازحين بشكل عام، بغض النظر عن وجود او عدم وجود روابط لمجتمع النازحين مع افراد التنظيم. بالإضافة إلى عدم الآلية في عملية اعادة الإدماج، فقد تجاهلت الحكومة العراقية اتخاذ خطوات جزئية من شأنها أن تحقق تقدمًا فوريًا وملموسًا نحو حل القضية. فعلى سبيل المثال، فقدت العديد من العوائل السنية الوثائق الرسمية الخاصة خلال سيطرة داعش أو خلال عمليات التحرير. وعمدت الحكومة المركزية الى عرقلة عملية إصدار الوثائق الجديدة، الأمر الذي يزيد من تقويض مبادرات بناء الدولة لإعادة بناء المناطق وإعادة إدماج السكان المتضررين بعد الحرب.
إن العديد من الأطفال المولودين في فترة سيطرة داعش ليس لديهم شهادة ميلاد صادرة عن الحكومة. ومع ذلك، فإن المشكلة تتجاوز تلك هذا الحد. فوفقًا لأحد التقديرات، ما يقرب من 40.000 طفل لا يستطيعون أن يلتحقوا بالمدارس العامة لأنهم يفتقرون إلى الوثائق الرسمية. بالإضافة إلى ذلك، تواجه العديد من العوئل العوائق في طريق عودتها إلى المنزل حيث أن عدم وجود هذه الوثائق يعزز الشك والوصم في كونهم عوائل من افراد داعش. وعدم امتلاك الأوراق الرسمية لن يمكنهم من مغادرة المخيمات أو نقاط التفتيش للحصول على الرعاية الطبية إذا كانت مناطق إقامتهم تفتقر إلى المستشفيات. ويذكر احد العاملين في المنظمات الأهلية التي تقود جهود المصالحة في مناطق ما بعد الصراع: "الإفتقار الى الوثائق الرسمية يعني الكثير. حيث لا يمكنهم الحصول على عمل، ولا يمكنهم الزواج، فهم ليسوا عراقيين". ويشمل ذلك شهادات الميلاد والوفاة والزواج والطلاق، بالإضافة إلى أشكال أخرى من الهوية التي تتعلق بالمواطنة والرعاية الاجتماعية مثل جوازات السفر والبطاقات التموينية.
إن فقدان الهوية يؤثر على الحقوق الأساسية وحقوق الملكية والميراث والعمالة والتنقل وجميع أشكال البرامج والخدمات والمزايا القائمة على الدولة. وهذا يؤدي أيضا إلى الفشل في عملية إصلاح النسيج الاجتماعي داخل مجتمعات المناطق المحررة. حيث ستعزز هذه الفوارق المستمرة التي ظهرت في
عملية الاندماج في تزايد عدد السكان عديمي الجنسية. والذي سيولّد المظالم داخل المجتمع السني والذي يمكن استغلاله بسهولة من قبل الجماعات المسلحة لتجنيد السكان المحليين والمخبرين في عملية الإختراق وتوليد قاعدة اجتماعية لتلك الجماعات. ويكمن أحد التحديات الرئيسية في تعريف المعايير القانونية التي تبين العضوية في داعش؟ فبدون تعريف عملي سيكون هناك مشكلة اساسية في التمييز بين العراقيين الذين انضموا تطوعاً إلى جهاز التنظيم مقابل المدنيين الذين تعاونوا أو تواطأوا مع التنظيم لعدة أسباب. فمهوم الراديكالية والانتماء الإيديولوجي لدى المقاتلين هو الافتراض الشامل الذي ترتكز عليه السلطات العراقية في تعريف تنظيم داعش. ولكن في الواقع، كانت هناك مجموعة متنوعة من الدوافع التي دفعت السنة للانضمام أو التعاون مع التنظيم.
آفاق عودة المقاتلين: يدور الجدل داخل مجتمع صنع السياسات في الغرب حول مستقبل داعش، والذي يتمثل في طرفين: بين الاعتقاد بأن التنظيم هُزم عسكريا، وبين الاعتقاد بأن عودته أمر لا مفر منه. وتعكس هذه المناقشات السياسية الاختلافات في كيفية تصور التهديدات التي يمثلها تنظيم داعش. فمن جهة، يتم التعامل مع داعش كتنظيم تم هزيمته عسكرياً حيث انتهى خطر التهديدات التي يقودها التنظيم. في حين أن الطرف الآخر يتصور تنظيم داعش على انه أيديولوجيا لا يمكن هزيمتها، على الأقل ليس باستخدام القوة. ولكن بغض النظر عن أي إطار يتم استخدامه لتحديد ما يمثله داعش فإن الظروف على الأرض - خاصة داخل المجتمع السني في العراق - ستحدد تطورها ومستقبلها. فمنذ أن خسر تنظيم داعش معقله الإقليمي الأخير في عام 2019، حذر خبراء الأمن من مخاطر عودته في المستقبل. إلى جانب الاعتقاد بأن انسحاب الجيش الأمريكي من العراق في عام 2011 أدى إلى صعود التنظيم، تدعو إلى السياسات الحكومية إلى وجود عسكري أمريكي دائم في العراق وسوريا. حيث قال وزير الخارجية آنذاك ريكس تيلرسون في كانون الثاني / يناير 2018: "لا يمكننا السماح للتاريخ بأن يعيد نفسه في سوريا، ومن خلال الحفاظ على وجود عسكري أمريكي في سوريا ستكون نهاية التنظيم قريبة". ومع ذلك، فإن الاعتقاد بأن الوجود العسكري الأمريكي الدائم في الشرق الأوسط سيمنع تمردًا آخر هو اعتقاد مُضلل.
علاوة على ذلك، هناك تباين كبير في وضع التنظيم وتقييمه الحالي للتهديدات. فعلى سبيل المثال، أفادت صحيفة نيويورك تايمز في أغسطس 2019 أنه لا يزال هناك 18000 مقاتل في العراق وسوريا، حيث قادت الخلايا النائمة سلسلة من الهجمات القناصة والكمائن والخطف والاغتيالات ضد قوات
الأمن وقادة المجتمع. جاء ذلك في أعقاب تقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة في عام 2018 الذي يؤكد بأن التنظيم لديه ما بين 20 إلى 30 ألف مقاتل. ووفقًا لقوة المهام المشتركة (ضمن التحالف الدولي)، هناك ما بين 14000 إلى 18000 "عضو" في جميع أنحاء العراق وسوريا بما في ذلك ما يصل إلى 3000 منهم من الأجانب. لكن المفتش العام لوزارة الدفاع يعترف بأن الأرقام تظهر اختلافا كبيرا.
على عكس السنوات السابقة للإنسحاب الأمريكي عام 2011، أصبح الوعي الظرفي بوجود الجيش الأمريكي في العراق محدودًا الآن بسبب القيود المفروضة على قدرته ودوره المحصور في القواعد العسكرية. واليوم، يعتمد الضباط العسكريون الأمريكيون بشكل كبير على تعاون نظرائهم العراقيين للتحقق من المعلومات الاستخبارية حول تهديدات داعش وعمليات مكافحة الإرهاب وتبادلها، الأمر الذي قوّض قدرة الجيش الأمريكي على إجراء تقييمات استخبارية مستقلة حول التهديد الحالي والمستقبلي للتطرف في العراق. بالإضافة إلى ذلك، هناك قلق بشأن استقرار تلك الشراكات مع أجهزة المخابرات والأمن العراقية في المستقبل خاصة بالنظر إلى التوترات المتزايدة بين الولايات المتحدة وإيران، مما يؤثر على المشهد السياسي العراقي ويضغط على الجهات المحلية لاختيار احد الجانبين.
إن الطريقة الوحيدة الموثوقة لتقييم ومعالجة خطر تنظيم داعش على المدى الطويل هي تحديد ومعالجة المظالم داخل المجتمع السني. فبدون قاعدة اجتماعية مواتية وفرص لاستغلال التوترات والمظالم بين السنة، لن يكون التنظيم قادراً على اعادة شبكاته الاجتماعية في العراق، ناهيك عن القوة الكافية لاستعادة الأراضي والاحتفاظ بها.
مقاربة مركزية اجتماعية: إن صعود وسقوط تنظيم الدولة الإسلامية يترك وراءه إرثاً في العراق ذو أثر عميق على الدولة والمجتمع. فبالنسبة للسنة، ستستمر الصدمة التي تسببت بها فظائع الحرب وحطامها في التأثير على المجتمع وعلى أجيال المستقبل. و حتى مع إعادة بناء البنية التحتية المادية والمنازل في المناطق المحررة (وإذا عادت الحياة إلى حد ما من الحياة الطبيعية) فإن النسيج الاجتماعي سيستغرق عقودًا من الجهود التصالحية في عملية الإصلاح. فبالنظر إلى أن تنظيم داعش مشتق من المجتمع نفسه، فقد غيّر صعود التنظيم جوانب عديدة في المجتمع السني بطرق لا رجعة فيها. ولتجنب تكرار التاريخ، يجب أن يتحول الارتباط الغربي مع الحكومة العراقية بعيداً عن إعطاء
الأولوية للنهج العسكري تجاه نهج يركز على مجتمع مجزأ، وبالتحديد على المصالحة وإعادة الإدماج والتعمير داخل مناطق ما بعد الحرب.
يحيط بمجتمع صناع القرار في واشنطن والعواصم الأوروبية قلق عميق إزاء عودة تنظيم الدولة الإسلامية. حيث انهم غالبًا ما يصورون التنظيم العسكري على أنه تهديد مستمر على الأفق. ويخشى صناع السياسة الغربيون أن عودة التنظيم أمر لا مفر منه. واليوم، قد يتم تحويل الموارد والاهتمام بعيدًا عن الجهود العسكرية المناهضة لداعش بسبب فقدان القدرة العسكرية الغربية للعمل في العراق، بالإضافة الى الاضطرابات الداخلية الناتجة عن حركة الاحتجاج المناهضة للحكومة، والتوترات المتزايدة بين الولايات المتحدة وإيران خاصة بعد الاغتيال الأمريكي في يناير 2020 للجنرال الإيراني قاسم سليماني.
إن تكرار تنظيم داعش لنجاحه التاريخي في السيطرة الإقليمية سيتطلب إعادة تجميع القواعد الاجتماعية للمكون السني للمشاركة في التمرد. ومع ذلك، يواصل الغرب التركيز المفرط على العمليات العسكرية. وينعكس هذا إلى حد كبير في العمليات التي يتم اجرائها من خلال القوة الجوية، والتي تستهدف بقايا التنظيم في المناطق الصحراوية والجبلية. ولكن هذه العمليات تتجاهل الخطر الحقيقي لتكرار الحرب الأهلية الناجمة عن المظالم في المجتمع السني الغير معالجة، والتي لا يمكن تخفيفها وإدارتها إلا من خلال الجهود السياسية على المستوى المحلي والوطني. وتحقيقا لهذه الغاية، فإن المفتاح لتخفيف خطر موجة أخرى من التمرد السني هو حرمان داعش أو الجماعات المتطرفة في المستقبل من استثمار الشبكات الاجتماعية المحلية في تجديد عضوية التنظيم. وهنا، يتم تسليط الضوء على ثلاث مناطق مثيرة للقلق تتطلب اهتمامًا سياسيًا وهي: الانقسامات المستمرة بين العشائر وداخل العشائر (السنية)، وانتشار المستوطنات العشوائية، وعدم حل لقضية المجتمعات النازحة.
أولاً: إن قضية المصالحة العشائرية وإعادة الاندماج مع الدولة والمجتمع أمر حتمي في عملية اعادة الاستقرار بعد انتهاء الحرب في المناطق المحررة. فبالنظر الى صعود تنظيم داعش الذي تضمن مشاركة نشطة للعديد من العراقيين السنة، فإن الدافع لتصفية الحسابات (بعد هزيمته) للجرائم التي ارتكبها سيظل عاملاً يؤدي الى دورة أخرى من العنف. حيث كان صعود التنظيم مدعومًا بدوافع الانتقام قبل عام 2014 التي لم تحدث فقط بين العشائر، ولكن أيضًا بين العوائل داخل العشيرة
نفسها مما أدى إلى تفتيت منظومة العشائر. ولتعويض خطر الموجات المستقبلية لتصفية الحسابات داخل المجتمع السني، يتطلب الحوار المستهدف على المستوى المحلي بين زعماء العشائر جهداً مستداماً من قبل وسطاء الطرف الثالث والمنظمات الأهلية المتخصصة في حل النزاعات. وهذا يتطلب شراكات موسعة ومستقرة بين المنظمات الدولية والسلطات المختصة في العراق، فضلا عن المشاركة على جميع مستويات الحكومة.
ثانياً: بالنظر لتاريخ الاضطرابات الذي شهده العراق منذ عقود طويلة، والذي تضمن عقوبات اقتصادية مدمرة وحروباً دولية واهلية، شهدت الأطراف الحضرية ازدهاراً في المستوطنات الغير رسمية (مجتمعات سكنية غير قانونية تم بناؤها ذاتياً). وقد أدى عدم اندماجهم في مؤسسات الحكومة الرسمية أو الخطط الحضرية للمدينة إلى جعلهم مجتمعات عديمة الجنسية، مما أدى إلى تفاقم الانقسام بين الريف والحضر. كانت هذه المشكلة منتشرة بشكل خاص في الضواحي الغربية لمدينة الموصل، والتي كانت بمثابة أرض خصبة لتنظيم داعش في عملية تكوينه المحلي وتجنيده في السنوات التي سبقت خلافته المعلنة. ومن المرجح أن تتفاقم مشكلة المستوطنات غير الرسمية بالنظر إلى الموجة الأخيرة من النزوح الداخلي وضعف قدرة الحكومة واستعدادها لمعالجة هذه القضية.
وأخيراً: فإن العوائق التي تحول دون إعادة الاندماج ضد السنة النازحين، بالإضافة إلى الإقصاء الإجتماعي لعوائل تنظيم داعش، والتي تمثل عوامل رئيسية في زعزعة الاستقرار والتي سيكون لها تأثير تراكمي على الأجيال الحالية والمستقبلية. فإذا لم تتم عملية إعادة دمج العوائل في مجتمعاتها، فمن المرجح أن تتفاقم المظالم على مدى السنوات القادمة والتي تؤدي إلى التطرف داخل المخيمات. وهذا بمثابة أرضية لتجنيد الجماعات المتطرفة. وبدون ضغط ودعم مستمر من المجتمع الدولي، فإنه من غير المحتمل أن يكون القادة العراقيون قادرين على تعبئة الإرادة السياسية لمعالجة القضايا المحيطة بإعادة الإدماج. والذي سيتطلب إزالة حواجز الدخول عبر تسريح الميليشيات أو إزالتها من المناطق السنية. وهذا أمر غير مرجح بالنظر الى قدرة الدولة.
واليوم، ترغب النخب السنية المحلية أن تبتعد الحكومة المركزية في بغداد عن نهجها الثنائي وتبني إطارًا قانونيًا مختلفًا في عملية إعادة الإدماج. فإن وجود نظام قضائي دقيق في تعريف عضوية الأفراد في تنظيم داعش، وتحديد درجات الجرائم المرتكبة للتوافق مع مستويات العقوبة المختلفة يعد أمر
أساسي للتخفيف من مخاطر تكرار النزاع. وهذا سيسمح بفرص إعادة الإدماج في المستقبل. وبما أن جميع العشائر في المناطق السنية لديها أعضاء انضموا إلى التنظيم بشكل أو بآخر، فهناك مصلحة جماعية لخلق مساحة قانونية للعناصر (وعائلاتهم) لإعادة دمجهم في نهاية المطاف في مجتمعاتهم المحلية.
ويجب أن تركز المشاركة الغربية في عراق ما بعد الحرب على هذه المجالات الثلاثة الواسعة النطاق، والتي ستساعد النخب الوطنية والمحلية على تخفيف الدوافع الفردية والجماعية في التعبير عن المظالم من خلال العنف الانتهازي. إن استراتيجية مواجهة أيديولوجية داعش غير كافية لأن داعش كان نتاج دوافع مختلفة (عوامل نتيجة المظالم المشروعة في المجتمع السني التي لا علاقة لها بالجهادية السلفية). ولمنع تكرار النزاع، هناك حاجة إلى جهد متضافر على المستوى المحلي لإصلاح الانقسامات المحلية داخل المجتمع السني والتوفيق بينها، وعلى المستوى الوطني لإعادة دمج هذا المجتمع في شبكة أوسع من البنية التحتية للدولة وعملية توفير الخدمات. وبدون وجود آليات بناء الدولة، فلابد للجماعات المسلحة من إيجاد أرض خصبة، وإقامة روابط اجتماعية وتوسيع واختراق شرائح مختلفة من السكان السنة.
lang.evaluate content
التعليقات السابقة