تتميز هذه الانتخابات بأنها الأشد استقطاباً على المستوى الاجتماعي حيث لا يمكن الجزم قبل هذه الانتخابات بالنتائج لعدة اسباب أبرزها، تقارب النسب لكلا المرشحين البارزين (أردوغان وكليجدار أوغلو) بشكل عام، بالإضافة لعدم حيادية أغلب شركات الاستطلاع المحلية لتأثرها بالضغط والمال والميول السياسية.
تلقى الانتخابات التركية اهتماما واسعاً محلياً واقليمياً ودولياً نظراً لطبيعة الأبعاد التي ستترتب عليها مما يؤثر بشكل مباشر على الكثير من ملفات ومستقبل المنطقة، بالتزامن مع التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه البلاد، والاستقطاب غير المسبوق في التاريخ السياسي التركي الحديث، وتبرز أهمية هذه الانتخابات بدورها في التأثير المتعدي على دول المنطقة، إما من خلال استمرار نهج الدولة التركية بالانفتاح على محيطها الجيوسياسي عبر الاتجاه نحو دول آسيا والشرق الأوسط بشكل أساسي، أو إعادة التركيز تجاه الغرب ودول أوروبا، بالإضافة الى ما سينعكس على الوضع السياسي الداخلي، وربما طال ذلك شكل النظام وحتى بداية لتحول القوى داخل الدولة سواء من قبل ما يمكن تسميته بالدولة العميقة، أو كذلك ترقب العسكر الذي لا يزال يبحث – وإن بدرجة أقل – عن سبل إعادة تقوية نفوذه بين فواعل إدارة الدولة التركية.
الخلفية السياسية:
تأتي هذه الانتخابات في ظل أجواء سياسية غير مسبوقة، حيث تتنافس فيها لأول مرة تحالفات تضم أحزاباً من مختلف التوجهات الايديولوجية والسياسية، مع استخدام لكل الطرق الممكنة للتغيير من قبل التحالف المعارض (تحالف الأمة)، وللاستمرار من قبل التحالف الحاكم (تحالف الشعب)، بالإضافة لانشقاق شخصيات هامة من أحزاب كلا التحالفين واصطفافها مع الطرف الآخر، وعدم تسمية حزب الشعوب الكردي المعارض مرشحاً رئاسياً لأول مرة دعماً، وهو ما يفسَّرُ دعماً ضمنياً للتحالف المعارض.
خارجياً، يمكن لمس الاهتمام البالغ من قبل الدول المحيطة بالجغرافية التركية (الأوراسية)، فيترقب الغرب والروس هذه الانتخابات على حد سواء لما سيعنيه ذلك من تحول في السياسة الخارجية لتركيا والمنطقة في حال خسارة الحزب الحاكم بقيادة أردوغان، او استمرار سياسة التوازن واللعب على التناقضات مع الدول العظمى، ولم تستطع تلك الدول إخفاء رغبتها بدعم طرف على حساب آخر سواء على مستوى تصريحات قادة الدول أو تغطية الاخبار من قبل الصحف الأوروبية التي بات دعمها واضحاً وصريحاً لتحالف المعارضة، وتجدر الإشارة إلى تدخل وسائل الإعلام الغربية وخصوصاً (الأمريكية، البريطانية، الفرنسية والالمانية) بالإضافة لدول أخرى لأول مرة بشكل علني ومباشر لدعم تحالف الأمة - المعارض ضد أردوغان-.
كما يشار إلى أن تحالف الطاولة السداسية الذي تم تأسيسه قبيل الانتخابات جاء "استجابة لعوامل ورغبات خارجية"، كما اتهمها وزير الداخلية ورئيس الجمهورية مهدداً ومعلناً عن وجود تسريبات ولقاءات تجمع زعيم المعارضة مع سفراء هذه الدول. وخصوصاً في ملف تنسيق العلاقة بين تحالف المعارضة والحزب الكردي المعارض واجنحة حزب العمال الكردستاني، لتوحيد الجهود لإزاحة الحزب الحالي من السلطة.
الخلفية الاقتصادية:
تعاني الليرة التركية من انهيار مستمر وملحوظ بالرغم من ارتفاع حجم الصادرات التركية بشكل عام، إلا أن عجز الميزان التجاري لا يزال يجاور الـ 25% في ظل تحديات اقتصادية لازالت تركيا تواجهها في خضم هذه الانتخابات، خاصة وأنها كانت البصمة الواضحة في إنجازات حزب العدالة والتنمية فيما مضى، وارتفعت نسب التضخم لأكثر من 50% بحسب هيئة الإحصاء التركية، ولأكثر من 80% بحسب المؤسسات الاقتصادية العالمية، مع انخفاض قيمة الليرة التركية لـ ٤ أضعاف ما كانت عليه فترة الانتخابات السابقة 2018. يضاف لذلك أزمة الزلزال الأخير في شهر شباط الماضي التي قدرت خسائرها بأكثر من 103 مليار دولاراً. انعكست هذه التغيرات على الشارع، وعلى حياة المواطن التركي بشكل ملحوظ. في حين تحاول الحكومة تخفيف الضغط الاقتصادي على المواطنين عن طريق رفع الحد الأدنى للأجور وزيادة معدلات التوظيف والمشاريع التشغيلية باستمرار.
بالإضافة لذلك توجد عوامل مؤثرة أخرى، ولا شك أن الأيديولوجيا أحد أهم هذه العوامل في تصويت الناخبين، والمقصود هنا الأيديولوجيا الحقيقية والمتخيلة والانتماءات الحزبية و الاصطفافات السياسية والميول الفكرية وغيرها، والتي طالما كانت مهمة -وربما الأهم- في التأثير على معادلة الانتخابات.
بالمثل، كان ملف اللاجئين والأجانب في تركيا، والسوريين منهم خصوصاً، ورقة ضغط بيد المعارضة ضد الحكومة، لكن الأخيرة عمدت مؤخرًا إلى تقنين وتحديد وجود الأجانب على أراضيها، لا سيما في المدن الكبرى وبعض أحيائها، مما قلل من ثقل الملف في أجندة الانتخابات قليلًا وتراجعه في حجم تداوله في الإعلام. (1)
أبرز المتنافسين
تتميز هذه الانتخابات بأنها الأشد استقطاباً على المستوى الاجتماعي حيث لا يمكن الجزم قبل هذه الانتخابات بالنتائج لعدة اسباب أبرزها، تقارب النسب لكلا المرشحين البارزين (أردوغان وكليجدار أوغلو) بشكل عام، بالإضافة لعدم حيادية أغلب شركات الاستطلاع المحلية لتأثرها بالضغط والمال والميول السياسية.
رجب طيب أردوغان
رئيس تركيا، وزعيم حزب العدالة والتنمية، وهو مرشح تحالف الشعب/الجمهور والذي يضم الحزب الحاكم وحزب الحركة القومية، بالإضافة لحزب الاتحاد الكبير، حزب الرفاه مجدداً، وحزب القضية الحرة "الكردي الإسلامي"، وحزب اليسار الديمقراطي.
وتشير غالبية استطلاعات الرأي الداخلية إلى إمكانية حصوله على نسبة تتراوح بين 50.5-51.5 % دلالة على تفوقه من الجولة الأولى في الانتخابات، بينما تشير بعض الاستطلاعات الخارجية على نسبة تتراوح بين 45-47 % كإشارة للذهاب إلى الجولة الثانية بين المرشحَين الأعلى نسبة دون الـ50%.
كمال كليجدار أوغلو
زعيم حزب الشعب الجمهوري ومرشح المعارضة الرئيسي، وهو علوي المذهب يحظى بدعم اوربي وامريكي معلن، إضافة لتأييد الطاولة السداسية+1 (تحالف الأمة)، والذي يضم أحزابا محافظة ويسارية وليبرالية مختلفة التوجهات تجتمع لأول مرة، وهدفها الرئيسي إزاحة أردوغان عن السلطة، ويضم هذا التحالف كلا من؛ رئيس الوزراء السابق المنشق عن حزب العدالة والتنمية احمد داؤود اوغلو، ووزير المالية والخزينة الأسبق علي باباجان المنشق ايضاً عن العدالة والتنمية، وزعيمة الحزب الجيد ميرال
اكشنار، وزعيم الحزب الديمقراطي جولتكين أويصال، وزعيم حزب السعادة الإسلامي تمل كارامولا اوغلو، بالإضافة لدعم الحزب الكردي الرئيسي حزب الشعوب الديمقراطي، وأحزاباً أخرى صغيرة كحزب العمل والحزب الاشتراكي، وتعطي الاستطلاعات نسباً متفاوتة لمرشح تحالف الامة بأرقام تقدر بـ 43-47% إشارة إلى مضي الانتخابات للجولة الثانية على اعتبار ضم اصوات اعضاء التحالف الى النسبة التقليدية التي يحصل عليها مرشح المعارضة الرئيسي لكل انتخابات.
سنان أوغان
وهو أكاديمي قومي معروف بمواقفه ضد الأجانب والمهاجرين مرشحاً عن تحالف الأسلاف/ الاجداد "تحالف أتا"، وهو تحالف يضم أحزاباً قومية متطرفة، أبرز تلك الأحزاب هو حزب النصر الذي يتزعمه أوميت أوزداغ، المعروف ايضاً بمواقفه المتشددة ضد الأجانب والسوريين خصوصا في السنوات الأخيرة، كما تعطي الاستبيانات الداخلية نسبة أصوات بين 1.5-2.5%.
الجدول (1)
توقعات شركات استطلاع الرأي للانتخابات الرئاسية
المصدر: من إعداد الباحث من عدة مصادر، مع مراعاة تنوع شركات استطلاع الرأي من حيث الخلفية السياسية والعلاقات مع الأحزاب.
الجدول (2)
توقعات شركات استطلاع الرأي للانتخابات البرلمانية
المصدر: من إعداد الباحث من عدة مصادر، مع مراعاة تنوع شركات استطلاع الرأي من حيث الخلفية السياسية والعلاقات مع الأحزاب.
وتشير آخر استطلاعات الرأي التي أجراها مركز أوبتمار خلال المدة بين ٤-١١ من هذا الشهر، وقام بنشرها قبل ٤٨ ساعة من فتح صناديق الاقتراع، إلى صعود حظوظ الرئيس الحالي أردوغان للفوز من الجولة الأولى، بنسبة تزيد من ٥٠% بقليل، بينما حصل منافسه الرئيسي ومرشح التحالف المعارض على نسبة تقل عن ٤٥% بقليل وفقا لنفس الاستطلاع، وكما هو مبين في الصورة أدناه.
الكتلة المتأرجحة
ستبقى الانتخابات التركية صعبة الجزم حتى وقت إدلاء الأصوات، لأن كلا الطرفين (التحالفان) يركزان على الحملة الانتخابية كعنصر أساسي في حسم الانتخابات، وذلك يعود إلى وجود كتلة متأرجحة (حيادية) تقدر بـ 10% يتم التنافس عليها بضراوة من خلال الحملة الانتخابية واستعراض القوة وتصيد أخطاء المنافس، وهو ما يمكن القول بأن الرئيس الحالي يتقن جذب هذه الشريحة أكثر من غيره، وهو ما لاحظناه مؤخراً بتركيز الزخم والإعلان عن القرارات التي تتعلق بتسهيل المعيشة، في الأيام الأخيرة وقبل الانتخابات بأيام.
في المقابل، يحاول تحالف الأمة التركيز على الاقتصاد في حملته الانتخابية، والحديث عن نسب التضخم وحالة التذبذب في أسعار العملة التركية وتحميل أردوغان وحزب العدالة والتنمية مسؤولية هذا الوضع الاقتصادي وسوء إدارة ملف العلاقات الخارجية مع دول أوروبا.
كان انسحاب المرشح السابق محرم انجه متوقعاً، ولكن الطريقة التي تم إجباره بها على الانسحاب من خلال ابتزازه بمقاطع فيديو فاضحة، من قبل أطراف تُحسب على تحالف الأمة المعارض وفقا لبعض المصادر التركية، وهو ما قد يعني تشتت المؤيدين له بين المرشحين الرئيسيين (أردوغان وكليجدار أوغلو)، في حين كان محرم انجه يعد أحد المنافسين لكليجدار أوغلو على القاعدة الشعبية التي يتنافس عليها المرشحان، قد يدفع انسحاب انجه (القومي ذو الهوية السنية) والطريقة التي تم اجباره بها على الانسحاب، الى تحول نسبة كبيرة من مؤيديه للتصويت لأردوغان على حساب كليجدار (ذو الهوية العلوية) وذلك بدافع تعصب بعض القوميين، أو بدافع النكاية بالتحالف الذي يظنون أنه يقف خلف استبعاد مرشحهم.
التأثير على المستوى الإقليمي:
من المؤكد أن المنطقة ستكون ضمن نطاق التأثر، فدولة بحجم تركيا وتأثيرها الجيوسياسي والتي كانت حاضرة في أغلب ملفات الشرق الأوسط المفصلية، قد يترتب على تغير الحكومة فيها إعادة بناء التحالفات وتغيير معادلات العلاقة بين دول المنطقة، وقد تكون دول الخليج ولاسيما قطر والكويت على رأس المتأثرين برحيل الرئيس الحالي، نظراً لطبيعة العلاقات التي أدارها الرئيس مع تلك الدولتين كحالة استثنائية في العلاقة مع دول الخليج.
بالنسبة للعراق والمنطقة، فإن فوز أردوغان قد يسهم في تعزيز التعاون الذي بدأت ملامحه بعد زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، في مختلف المجالات، خاصة في ملف مكافحة الإرهاب وتعزيز الاستقرار الإقليمي والتبادل التجاري، ومع ذلك، قد تظل قضايا حساسة مثل ملف المياه وموقف تركيا من تبادل الطاقة مع إقليم كردستان العراق مصدر توتر محتمل بين البلدين من طرف الحكومة العراقية، بالإضافة لاستمرار العمليات التركية في شمال العراق ومناطق تواجد عناصر تنظيم PKK الإرهابي تحديداً.
كذلك الوضع بالنسبة للمنطقة، بعد جولة تصفير المشاكل التي قامت بها تركيا خلال العامين الماضيين مع دول المنطقة، يتم الاستمرار بنفس نمط العلاقة بتطوير التعاون الاقتصادي وزيادة ضخ الاستثمار والودائع داخل تركيا وتشغيل الشركات التركية في تلك المناطق.
إلا أن السيناريو الآخر وهو الأقل حظاً -نسبياً-، والمتمثل في فوز مرشح المعارضة كمال كليجدار اوغلو، سيؤثر بشكل مباشر على المنطقة بتفعيل الاتفاقات التي تم على أساسها التحالف "تحالف الأمة" مع بعض القوى، ومن أهم هذه الاتفاقات انسحاب القوات التركية من شمال سوريا والعراق، بالإضافة لتعزيز نفوذ الناتو عسكرياً داخل تركيا، وعزل تركيا ما أمكن عن العالم العربي والاكتفاء بالتبادل التجاري فقط، وتجنب الأدوار والمواقف التي قامت وتقوم بها الحكومة الحالية برئاسة أردوغان.
كما أنه من المتوقع تراجع مقاعد حزب العدالة في البرلمان، مما يؤدي الى عدم حصول التحالف الحاكم على الأغلبية في البرلمان كما في السابق، وهذا سيؤثر ذلك على سير العملية السياسية وسهولة اتخاذ القرارات، وخصوصاً في ملف الموازنة والسياسات المالية، ما لم يقم تحالف الشعب بضم نواب آخرين من التحالفات والأحزاب الاخرى لضمان الأغلبية البرلمانية والاستمرار على نفس الوتيرة الحالية، لذا غالبا سيلجأ تحالف الشعب للبحث عن استقطاب نواب آخرين لدعم توجهاته تحت قبة البرلمان.
خاتمة
يمكن القول إن النسب المذكورة في شركات الاستطلاع ووسائل الإعلام هي محاولات للتنبؤ بأبرز المشاهد التي قد نراها في نتائج الانتخابات المقبلة، ولكن يمكن أن تحدث مفاجآت تغير مسار النتائج وحتى ملامحها بسبب خصوصية هذه الانتخابات ومستوى تعقيدها، بسبب التحول الكبير في شكل التحالفات، والتي تحالفت فيها قوى يمينية مع يسارية، وعلمانية مع إسلامية، وقومية مع كردية، مما سيجعل التنبؤ في سلوك نسبة من قرار التصويت لدى القواعد التنظيمية لهذه القوى غير مضمون.
وخلاصة القول، بأنه في حال بقاء النظام الحالي، فإن ذلك يعني استمرار النظام السياسي والاقتصادي على نفس النهج، بالإضافة إلى سياسات تركيا الداخلية والخارجية، وستترسخ بشكل أكبر في العقل الجمعي للدولة، وربما ستنعكس توجهات الرئيس وفكره بشكل أوضح في الملفات الداخلية والخارجية، لأنها ستمثل دورته الأخيرة التي سيحاول فيها التعبير عن ذاته بشكل أكبر.
ومع ذلك، ستكون الأمور مختلفة إذا ما فازت المعارضة، حيث سيتم تعديل عدة زوايا داخلياً، مثل العودة بنظام الدولة إلى النظام البرلماني بدلاً من الرئاسي، وإعادة رفع نسبة الفائدة بدلاً من خفضها لمواجهة التضخم، ومشاريع ترحيل اللاجئين، أما بالنسبة لسياسة المعارضة الخارجية، فأبرز المشاريع هو الموافقة على انضمام السويد إلى حلف الناتو بالنظر إلى أن الحكومة الحالية تربط الموافقة بموقف السويد من تنظيم حزب العمال الكردستاني، بالإضافة إلى العودة إلى سياسة الاقتراض من البنك الدولي، والانسحاب العسكري من شمال العراق وسوريا وشرق المتوسط، والوقوف إلى جانب أوكرانيا ضد روسيا في الحرب الدائرة، وتبني موقف ينحاز إلى محور الناتو بدلاً من سياسة الحياد، والاستفادة من هامش تنازع القوى الدولية، التي تبنتها الحكومة الحالية، مما سيشهد حضور غربي أكبر في السياسة التركية داخليا وخارجياً.
وهناك توقعات تشير إلى الذهاب باتجاه انتخابات مبكرة في حال فوز تحالف المعارضة؛ لعدم قدرة تحالف المعارضة على الانسجام في حالة الفوز، وعدم القدرة على تحقيق التوافق للقوى المشكلة لطاولة المعارضة، مما سيضعف الحالة السياسية للدولة داخليا وخارجيا.
lang.evaluate content
التعليقات السابقة